في ظل سياسات الحزب الوطني

غاب العلم المصري من المدارس،‮ ‬كما‮ ‬غاب من واجهات المؤسسات والمباني الحكومية والخاصة،‮ ‬غاب عن الميادين العامة وعن شوارع الجمهورية من أقصاها لأقصاها،‮ ‬غاب حتي عن شاشة التليفزيون باستثناء بعض المناسبات الوطنية‮.‬
والغريب أن أحدا لم يكترث لغيابه،‮ ‬والسؤال الآن‮: ‬هل‮ ‬غاب العلم المصري عن قلوب المصريين أيضا؟
ففي رسالة لأستاذ جامعي نشرتها جريدة‮ '‬الأهرام‮' ‬قال فيها‮: ‬إن ابنه خريج الجامعة يرغب‮ ‬في الهجرة لأمريكا وأفصح عن نيته في عدم العودة إلي مصر،‮ ‬وعندما سأله أبوه‮: ‬هل تحب أمريكا؟ أجاب‮: ‬نعم،‮ ‬فسأله‮: ‬رغم ما تفعله بنا؟ فأجابه‮: ‬نعم،‮ ‬فعاد الأب يسأله مندهشا‮: ‬وماذا لو استدعيت هناك للانضمام‮ ‬إلي المارينز؟ فقال‮: ‬


سأذهب طبعا،‮ ‬اشتدت حيرة الأب الأستاذ الجامعي فعاد ليسأله‮: ‬ماذا لو سافرت مع قوات الجيش الأمريكي لمحاربة أشقائك في العراق؟ أجاب الابن‮: ‬سأذهب‮!!.. ‬هذه الواقعة ليست فردية ولم تكن الوحيدة بل هناك نماذج كثيرة تؤكد أننا نعيش أزمة هوية منها علي سبيل المثال لا الحصر أن هناك أكثر من ‮٢٢ ‬ألف مصري‮ ‬يعيشون داخل الكيان الصهيوني وأن كثيرا منهم تزوج من إسرائيليات وتجنسوا‮ ‬بالجنسية الإسرائيلية بل إنهم‮ ‬يدافعون بشراسة عن الكيان الصهيوني الذي‮ ‬يفخرون‮ ‬بالعيش فيه‮.. ‬أضف إلي ذلك‮ ‬رغبة معظم المصريين في‮ ‬السفر إلي‮ ‬خارج مصر‮ - ‬الوطن الذي‮ ‬لطالما احتضن الأغراب والأبناء‮ - ‬أملا‮ ‬في الهروب‮ ‬من الاحباطات‮ ‬المتتالية‮ ‬لهم علي أرضه‮.‬
لهذه الدرجة وصلت أزمة الهوية والاغتراب بالشكل الذي جعل هؤلاء يتناسون إرث العداء بيننا وبين الكيان الصهيوني الذي قتل ومازال يقتل صغارنا ويذبح أسرانا ويدهس أرضنا وارتكب‮ -‬ومازال‮- ‬آلاف المجازر والمذابح بوحشية وبشاعة تفوق حدود الوصف ببلدنا ووطننا‮.. ‬فهل نجحت الحكومة في تهيئة المصريين للتضحية بوطنهم لهذه الدرجة؟ ألم يسأل أولو الأمر أنفسهم لم ارتفع عدد قضايا التجسس لصالح العدو الصهيوني؟ ولماذا يهون الوطن علي أبنائه؟‮!‬
والسؤال‮: ‬هل الإحساس بالقهر والظلم الاجتماعي وتزايد أعداد البطالة وارتفاع سن الزواج واقتصار فرص التعيين بالمناصب والوظائف المهمة علي أصحاب الواسطة،‮ ‬وهل انتهاك آدمية المواطن في أقسام الشرطة‮.. ‬مثلما حدث في قضية عماد الكبير وقتل الطفل‮ (‬محمد‮) ‬بقسم شها بالمنصورة وغيرها من القضايا،‮ ‬وفقدان المرضي الأمل في الحصول علي العلاج،‮ ‬وغياب مادة التربية الوطنية عن المناهج الدراسية،‮ ‬ونشر ثقافة التصهين والتطبيع عبر المؤتمرات والندوات والمراكز المشبوهة،‮ ‬والقمع في المظاهرات السلمية وحظر المشاركة السياسية للطلبة في المدارس والجامعات وغياب الأغنيات والدراما الوطنية وعزوف الناس عن التصويت في الانتخابات نتيجة تزوير أصواتهم‮.. ‬هل تستطيع تلك العوامل مجتمعة أن تفقد المواطنين انتماءهم للوطن،‮ ‬وما الذي فعلته بنا حكومة الحزب الوطني التي احتلت زمام أمور المصريين منذ نحو الثلاثين‮ ‬عاما؟‮!‬
تقول الدكتورة عزة كريم أستاذ علم الاجتماع إنه رغم التطبيع السياسي منذ اتفاقية كامب ديڤيد إلا أن المصريين خاصة الجيل الذي حضرنكسة‮ ‬67‮ ‬ونصرة‮ ‬73‮ ‬لا يقبل فكرة التطبيع،‮ ‬ليظل الحاجز النفسي بين المصريين والصهاينة ممتدا‮ ‬عبر الزمن رغم المحاولات الحكومية العديدة‮ ‬والدءوبة علي إزالة هذا الحاجز الذي يزداد ارتفاعا‮ ‬وكبرا‮ ‬كلما اتسعت دائرة المجازر الإسرائيلية علي الأرض الفلسطينية،‮ ‬إلا أن تغييرا‮ ‬طرأ علي الجيل المصري الجديد‮ -‬جيل العشرين‮- ‬والذي يعاني معاناة شديدة في مجتمعه
وهنا نشير إلي أن احصائيات المركز القومي للبحوت تؤكد أن هناك ما يزيد علي‮ ‬12‮ ‬مليون عاطل فضلا‮ ‬عن العاطلين بعد قانون الخصخصة،‮ ‬وأن هناك تسعة ملايين عانس‮.‬
كذلك ارتفاع معدلات الطلاق،‮ ‬حيث تصل إلي‮ ‬26٪‮ ‬إضافة إلي‮ ‬عدم الإحساس بالأمن نتيجة التصرفات الشرطية العنيفة،‮ ‬وكذلك انتشار الظلم الاجتماعي وعدم الاعتراف بإمكانيات وقدرات المواطن فأصبح الهم الأساسي للشباب هو كيفية الخروج من الوطن والذهاب لأي بلد آخر عربي أو أوروبي بأي طريقة كانت شرعية أو‮ ‬غير شرعية‮.. ‬وقد أشارت الاحصائيات إلي أن عدد المهاجرين الشرعيين فقط هو ربع عدد المهاجرين هجرة‮ ‬غير شرعية،‮ ‬وهناك إحدي قري الريف المصري سافر معظم شبابها إلي‮ '‬إسرائيل‮' ‬وتزوجوا من إسرائيليات وعاشوا هناك بعد حصولهم علي فرص عمل تتوافق مع إمكانياتهم ورغباتهم‮.. ‬وهذا مؤشر شديد الخطورة‮.‬
‮ ‬وما حدث مع بدو سيناء‮ ‬دليل علي ذلك فقد تركت الدولة المشكلة تتفاقم بين البدو ورجال الشرطة الذين كانت معاملتهم قاسية وعنيفة أدت لشعورهم بالقهر،‮ ‬ولأن البدو يعانون من مشاكل أخري تراكمية مثل الفقر‮.. ‬والبعد الجغرافي عن عمار الوطن أضف لذلك حدودهم المفتوحة مع الكيان الصهيوني لسنوات طويلة ومحاولة‮ '‬إسرائيل‮' ‬الدءوبة لاستقطابهم وفقا‮ ‬لمخططها طويل المدي باعتبارهم مدخلها إلي قلب الوطن لكل هذا كان طلبهم اللجوء إليها أمرا‮ ‬ليس مستحيلا‮.‬
وهنا تؤكد د‮. ‬عزة كريم أنه علي القادة أن يدركوا معني الانتماء والمواطنة،‮ ‬فالعلاقة بين الدولة والشعب لابد أن تكون علاقة متبادلة،‮ ‬فعندما يحصل المواطنون علي احتياجاتهم من الدولة سينتمون إليها،‮ ‬والانتماء ليس كما يعتقد الكثيرون أنه انتماء للأرض،‮ ‬بل هو انتماء لنظام متكامل فوق تلك الأرض أهم ما فيه تبادل المصالح،‮ ‬والشعور بالانتماء شعور متجدد ومتغير يتغير بتغير العلاقة بين الحاكم والمحكوم‮.. ‬أو بين السلطة والناس،‮ ‬فتجد هذا الشعور يعلو ويرتفع في حالة حدوث أية كوارث مثل الحرب أو الزلازل‮.. '‬وهنا نذكر أن أقسام الشرطة علي مستوي جمهورية مصر العربية لم تسجل حادث سرقة واحدا في حرب أكتوبر‮'.‬
والاحباط والقهر هما أكثر شيء يؤدي إلي عدم الانتماء وبالتالي إلي الخيانة‮.‬
ويقول الدكتور لطفي الشربيني استاذ الطب النفسي بجامعة الاسكندرية أن بعض فئات من المصريين فاجأتنا بطلب النجدة والعون من الصهاينة،‮ ‬وهو مؤشر خطير للغاية من وجهة النظر النفسية،‮ ‬حيث يدل ذلك علي فقدان روح الانتماء والمواطنة لدي هؤلاء ورغم‮ ‬كبر هذا الذنب إلا أننا نؤكد أن ما حدث ليس هينا‮ ‬علي من قاموا به،‮ ‬فعلينا أن نضع أيدينا علي الأسباب التي أدت لقيامهم بذلك ولابد من احتواء أزماتهم ومشكلاتهم،‮ ‬حيث من الواضح أن هؤلاء المواطنين وصلوا لحد الألم الذي دفعهم إلي الارتماء في أحضان العدو بعد أن ضاقت بهم السبل أن يجدوا العدل في وطنهم‮.‬
فنتيجة لغياب العدالة والظلم الاجتماعي البين الذي يشهده المجتمع المصري مؤخرا‮ ‬تراجعت قيم الانتماء وأصبح هناك تحريف واضح في الوعي القومي وسادت حالة من الفوضي والاضطراب بالمشاعر الوطنية التي تربي عليها جيل كامل من المصريين‮.. ‬وعلي القادة أن يدركوا أن ما يحدث من مؤشرات ينذر بعواقب خطيرة‮.‬
نفس الأسباب مجتمعة تشير إليها الدكتورة سوسن عثمان عميد معهد الخدمة الاجتماعية‮ - ‬سابقا‮ - ‬وأستاذة علم الاجتماع،‮ ‬حيث تؤكد أن الإحباط والمعاناة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها مصر الآن كلها توصل لدرجة فقدان التوازن والاهتزاز القيمي داخل المجتمع،‮ ‬خاصة أننا أصبحنا في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل بعد أن أصبحت الثوابت والقيم أشياء بالية لا قيمة لها أمام اللصوص والمرتشين الذين أصبحوا هم أسياد المجتمع‮.. ‬ورغم أن المجتمع كان يعاني أيضا‮ ‬مرارة الفقر والظلم الاجتماعي في فترات ماضية إلا أنه كانت هناك فرص للترقي والحراك الاجتماعي،‮ ‬خاصة لمن يستحقون فهناك من كان يحقق أحلامه عن طريق العلم‮ -‬مثل طه حسين الذي استطاع بتفوقه العلمي أن يكمل دراسته بباريس‮- ‬أو عن طريق التفوق الحرفي أو الاجتهاد في أي عمل ما،‮ ‬وهو ما لا يحدث اليوم فمهما تفوق أو تميز أي شاب لا يستطيع أن يحصل علي وظيفة تناسب مهاراته ورغباته إلا إذا كانت هناك واسطة،‮ ‬والواسطة تمنح الوظائف لمن لا يستحق‮.‬
وتشير الدكتورة سوسن إلي أن من أسباب فقد مشاعر الانتماء هي عدم شعور المواطن بآدميته خاصة في وطنه فمعاناة المواطن ليحصل علي العلاج والتعليم والعمل وإهدار أرواح المئات‮ -‬بالجملة‮- ‬مثلما حدث في كارثة العبارة‮ '‬السلام‮ ‬98‮' ‬وفي حريق بني سويف وعدم الثأر ومعاقبة المسئول الحقيقي وراء إهدار تلك الدماء يجعل النفوس تهون علي أصحابها،‮ ‬ويجب ألا ننكر أن مشاعر الولاء والانتماء لازالت قوية لدي جموع المصريين لكنها تائهة تحت‮ ‬غبارالمشاكل والأحداث الجارية،‮ ‬ومع ذلك يجب أيضا‮ ‬ألا ننكر وجود بعض ذوي النفوس الضعيفة المستعدين لبيع أنفسهم بأبخس ثمن‮.‬
إصلاح المجتمع وإعادة توازنه واستعادة قيمه وتحفيز روح الانتماء والمواطنة لدي المواطنين‮.. ‬مسئولية من؟‮!‬
وتري الدكتورة سوسن إن تلك المسئولية تقع علي عاتق قادة المجتمع من السياسيين والمثقفين والإعلاميين ورجال الدين فالإصلاح يبدأ من القمة قبل القاعدة وهناك تجارب عديدة شاهدة علي ذلك مثلما حدث في ماليزيا التي كانت تعيش تحت خط الفقر وأصبحت الآن من الدول المتقدمة،‮ ‬ومثلما حدث في اليابان بعد تجربة هيروشيما ونجازاكي واستطاع قادتهم أن يخلصوا المجتمع من حالة الانهيار الكامل إلي التفوق العلمي والمجتمعي في كل شيء‮.‬
من جانبه يؤكد الدكتور قدري حفني أستاذ علم النفس‮.‬‮ ‬ضرورة معالجة المشاكل التي تواجه مجتمعنا وتصحيح الأوضاع بشتي الطرق،‮ ‬والسماح بالمناقشات والمظاهرات والندوات والاعتصامات وإتاحة حرية التعبير،‮ ‬وللإعلام أيضا‮ ‬دور في الإصلاح من القمة إلي القاعدة وهنا القاعدة هي الأهم‮.‬